عبد الوهاب أكومي
في ليلة من يوم 15 شتنبر 1989، رحل عنا الأستاذ عبد الوهاب أكومي أحد أقطاب ورواد الأغنية المغربية الكبار، إثر حادثة سير حينما دهمته شاحنة في ظلام الليل وهو في طريق عودته من مدينة بني ملال، حيث كان قد صمم أن يؤسس معهدا موسيقيا بهذه المدينة لأنه كان رجلا طموحا، وأراد بعزيمته وحبه المتفاني في الموسيقى ورغبته الأكيدة في أن يشمل الفن الموسيقي أرجاء الوطن كله.
كان عبد الوهاب أكومي، فنانا عاشقا لفنه ووطنه.. كان علامة متميزة في إبداعاته الموسيقية.. استطاع أن يعطي أروع وأحلى ما عنده من أنغام وصوت عذب أطرب الجميع، لم يستطع أن يقلده أحد أو يقترب من أسلوبه وطريقة أدائه .. كان مدرسة خاصة به، كان منذ صباه شغوفا بالطرب والموسيقى.. عاشقا وولوعا بأغاني أهل الطرب القديم أمثال صالح عبد الحي وعبده الحمولي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، كان ميلاد هذا الفنان الكبير بمدينة فاس سنة 1920، وقد تأثر عبد الوهاب أكومي في بداية مشواره الأول بوالده ووالدته اللذان نبها وجدانه إلى الاهتمام بالطرب لأنهما كانا يملكان صوتا رخيما، واهتماما بالتراث الأصيل، الموسيقى الأندلسية وفن الملحون، كان يصغي إلى صوت والدته العذب الحنون باهتمام بالغ، وأحيانا تطربه بصوتها الشجي وهي مكبة على آلة الخياطة تشتغل وتغني، أما والده فكان عالما جليلا، ومقرءا يتقن فن التجويد لكتاب الله… صاحب نبرات صوتية تذوب رقة وعذوبة.. إذا تلا القرآن الكريم خشعت القلوب ودمعت العيون وكان يرافق والده إلى الزوايا في كل مناسبة دينية تتخللها أصوات المادحين للسماع والأمداح النبوية.. حيث كان والده من ألمع المادحين لفن السماع..
من خلال هذه المدرسة الأسرية الدينية تعلم –أكومي- الشيء الكثير ومنها انطلق إلى دنيا النغم كما كان ميالا إلى مجالسة رواد فن الآلة الأندلسية أمثال الفقيه
–محمد البريهي- والفقيه محمد المطيري ومولاي أحمد الوكيلي.. كان لهؤلاء الرواد الكبار أقطاب الآلة الأندلسية تأثير كبير في نشأة –أكومي- الموسيقية، فاندفع بشغف إلى التعليم لآلة –العود- وأمسكه بين أحضانه وأخذ يتمرن ويعزف عليه.. معتمدا في البداية على السماع ومحاكاة كبار العازفين.. وأثناء هذه الفترة المبكرة، شعر أكومي أنه بعد مدة وجيزة سيكون قادرا على تقليد محمد عبد الوهاب وأن يلحن ويغني.. فانفتح الباب أمامه وبدأ أول عمله الموسيقي بتلحين الأناشيد الوطنية للتلاميذ، حيث فتح أول مدرسة لتعليم الفن الموسيقي بالمغرب جعل من مرأب للسيارات نظرا لعدم توفره على مكان مناسب لهذا الغرض.. وللتذكير كان ذلك سنة 1940، ولما علم المغفور له محمد الخامس بهذه الموهبة الفياضة، هذا النبوغ المبكر أنعم عليه برعايته وبعثه إلى مصر ليدرس الموسيقى عن علم ودراسة، كانت فرحة أكومي بهذه الالتفاتة المولوية فرحة كبيرة وحلما كبيرا، جعله أسعد مخلوق في هذه الدنيا.
وفي القاهرة منبع العلم والفن.. أخذ أكومي أصول وعلوم الموسيقى بمعهد « فؤاد الأول » كان ذلك سنة 1945 حيث حصل على دبلوم الموسيقى. وخلال هذه المدة سجل للإذاعة المصرية ألحانا من إبداعاته الموسيقية كما لحن أوبريت العباسة أخت الرشيد، وهي مسرحية شعرية للشاعر المصري الكبير عزيز أباظة، وقدمتها فرقة « رمسيس » التي أنشأها عميد المسرح العربي يوسف وهبي سنة 1923.
وقد ظل أكومي بمصر ثماني سنوات وللتذكير فقد شارك أكومي في فيلم سينمائي مصري بجانب الممثل أحمد سالم والمطربة نور الهدى (اسم الفيلم المنتقم)، وخلال هذه الفترة أحيا عدة حفلات بالقاهرة وغنى أغاني من إبداعاته المتميزة التي لقيت صدى طيبا لدى الجمهور المصري، ومن أرض الكنانة سافر أكومي إلى مدينة النور « باريس »، ليتمم دراسته فدخل إلى المدرسة العليا للموسيقى وبقي بها ثلاث سنوات (من سنة 1952 إلى سنة 1955)حصل خلالها على شهادة في التوازن الصوتي والتوزيع الآلي، وفي نفس الوقت حصل على شهادة أخرى في الموسيقى بمدريد. وفي أوائل سنة 1956 عاد عبد الوهاب أكومي إلى أرض الوطن بعد عشر سنوات دراسة الموسيقى العربية والأوروبية، تمكن من خلال الرحلة من الإحاطة بأصول هذا الفن الموسيقي الرفيع. وفي سنة 1958 أسس بالمغرب أول معهد وطني لتعليم الموسيقى بالرباط، ويعد هذا المعهد الموسيقي أول معهد موسيقيا بالمغرب، وأكومي هو أول فنان أدخل الصوت النسوي في الكورال.
والفنان عبد الوهاب أكومي هو أول من أنشأ أوركسترا سامفونية داخل المعهد الوطني، كما يعتبر أكومي هو أول من بعث عدة طلبة لتلقي الدراسة الموسيقية بالخارج، نظرا لكون معاهدنا لا تتوفر سوى على التعليم الابتدائي والثانوي، فاضطر إلى إرسال بعثات من طلبتنا عن طريق وزارة التعليم ووزارة الشؤون الثقافية… إلى كثير من البلدان كفرنسا وألمانيا وإيطاليا..
ومن أبرز الألوان الموسيقية التي لحنها أكومي وتميزت بأسلوبه الفريد كالطانكو والرومبا والسامبا.. وللتذكير فقد لحن أكومي عدة قطع تصويرية أذكر منها : دمعة في الليل، وموكب الربيع، كما لحن قطعا غنائية لفيلم عنترة العبسي بطولة الممثل المصري سراج منير والممثلة كوكا، كما لحن أكومي عدة ملاحم وطنية أذكر بينها : موكب الوطن، عرضت بمسرح محمد الخامس بحضور المغفور له الحسن الثاني ونالت إعجابه ونوه بمقدرته وعبقريته الفذة، كما لحن أوبريت المجد الخالد وقد أهلته ثقافته العميقة في الموسيقى لأن يحتل مكانة مرموقة في المؤتمرات الموسيقية والمعاهد الأوروبية، وأن تختاره الجامعة العربية كسفير موسيقي ومحاضر وممثلا لبلاده المغرب في جميع المهرجانات والمحافل الدولية.. لما يقوم به بالتعريف بالموسيقى المغربية والعربية كافة، وهذه معلومة قد لا يعرفها كثير من الناس أترك الكاتب المسرحي الكبير والشاعر الزجال الغنائي المعروف الأستاذ أحمد الطيب العلج ليحكي لنا عنها : « في سنة 1937، جاءني أخي بورقتين وقال لي غدا سنذهب إلى المسرح ويرفع الستار… ويأخذني ذلك السحر الحلال الذي هو المسرح كان أول ممثل رأيته على الخشبة في حياتي هو الأستاذ عبد الوهاب أكومي، كان يمثل دور « عطاء » في مسرحية « قف أيها المتهم » للمحروم عبد الواحد الشاوي ». ومنذ تلك الليلة، ترسخ في ذهن –العلج- حب المسرح وأخذ يحلم ويتساءل متى أتحرك فوق الخشبة.
وهذه بعض القطع الغنائية التي لحنها وأداها المبدع عبد الوهاب أكومي بصوته الشجي العذب: ما تقولي ولا قولك، واسألوا التاريخ عن أيامنا، وهي من يشعر الدكتور، عبد الهادي التازي.. والدنيا حلوة وبرئ -وهي من كلمات الممثل حمادي التونسي- ومالك حيرانة يا بني.
وللإشارة، فقد لحن عبد الوهاب أكومي أغنية بنت باريس للمطرب والملحن المصري المعروف محمد فوزي.
اخترت أن أتذكر هذا الوجه المضيء –حتى لا ننساه- هذه الجوهرة من ألمع الجواهر، وأجملها وأغناها، وأكثرها أصالة… حتى لا ننسى هذه الوجوه التي بذلت عطاءات كثيرة، ومجهودات كبيرة، وحتى يتذكرها ويتعرف عليها جيلنا الصاعد ويتأكد أن لنا جذور موسيقية أصيلة، ورجال وضعوا بصمات راسخة لا تمحى من ذاكرتنا، والدليل على ذلك أن هذه الأعمال التي صنعها أقطابنا الأفذاذ عاشت أزيد من ستين سنة ولا زالت تعيش في قلوبنا وعقولنا تضرب الكبير والصغير، ويتذكرونها إلى اليوم