الحبيب الادريسي
الحبيب الادريسي من الأوائل الذين ولجوا عالم الأغنية المصورة، وتعامل مع مخرجين كمحمد الركاب، حميد بنشريف، حسن بورجيلة وغيرهم… رأى الحبيب النور سنة 1948 بمنطقة جبل «أمركو»، التي توجد بمنطقة كانت تسمى قديما فاس البالي بالقرب من سد الوحدة. فقد والده وهو صغير لم يتجاوز بعد الثالثة من عمره، كان والده يشتغل فقيها يدرس القرآن والعلوم الدينية في المساجد والزوايا، تربى في كنف أمه التي أصلها من «القليعة» بنواحي غفساي، تلقى تعليمه الأولي بالمسيد، توفيت والدته ولم يكن يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.
المطرب والملحن الحبيب الإدريسي عاش صعوبات في حياته من أجل إثبات ذاته، عاش يتيما وسط أكثر من عائلة احتضنته. في البداية انتقل للعيش بمنزل آل التازي، وفي نفس الوقت كان يشتغل عنده في التجارة، وظلت والدته قريبة منه، عاش مدللا وسط هذه الأسرة، وتعلق بالموسيقى والغناء، وبدأ يستمع لنجوم الطرب أمثال فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وحفظ الكثير من أغانيهم، لم يعد يول اهتماما كافيا للأنشطة التجارة التي كلفوه بها، وبدأ يخترع الأعذار لحضوره نشاط فني معين، وكان يترك المحل التجاري تحت امرة مساعده أو صديقه، حتى أن في أحد الأيام تعرض المحل الذي كلف صديقه بمراقبته للسرقة من طرف مجهولين.
بعد انتقال الحبيب الادريسي إلى مدينة الدارالبيضاء في الخمسينيات، كان نشاطه الأول الذي مارسه هو التجارة، ثم زاول العديد من الرياضات مثل كرة القدم والسباحة، اشتغل لفترة قصيرة مراقبا بحافلات نقل تابعة للحاج احميدة التازي، وأصبح مساعدا في تجارته، ويستأمنه على شؤونه، حاولت تلك العائلة أن تغطي على إحساسه باليتم، بحيث عاش مع أبنائها. وفي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات انتقل للعيش مع عائلة أخرى تسمى عائلة البلغيتي، بمرس السلطان بحي الأحباس، وكان يشتغل في التجارة عندها، بدرب عمر وطريق مديونة المختصة في تجارة الأثواب، وبموازاة ذلك كان يهتم بالموسيقى، وحينما أراد أن يسجل أغنيته الأولى بمدينة فاس اضطر إلى اختلاق عذر للعائلة التي يشتغل عندها، فادعى أنه مسافر ليشفع في أرض له بنواحي مدينة فاس.
فيما بعد أصبح الإدريسي مكلفا باستخلاص عائدات العديد من القاعات السينمائية، التي كانت تملكها العائلة التي يعيش معها، منها سينما «فوكس» و«ريالطو» و«الريف» و«الأطلس»، وكانت لهذه العائلة شركة للانتاج السينمائي تحت اسم «المغرب الموحد».
الفنان الإدريسي كان نجما غنائيا ضمن نجوم الغناء المغربي في أواخر الستينيات، كان يتمتع بمواهب فنية وصوت رخيم، يحفظ لحن الأغنية وإيقاعها جيدا، ويغني أغاني عبد الحليم حافظ، والمعطي بنقاسم… وبعد تعرفه على الملحن عبد الرحيم السقاط، نصحه بالتفرغ للفن إن أراد النجاح في مساره الفني، ولذلك تخلى عن التجارة لصالح الفن، وهو القرار الذي لم يتقبله في البداية أفراد العائلة التي يشتغل عندها.
بدأ مساره الفني أواخر الخمسينيات وفي منتصف الستينيات سيتعامل مع الملحن السقاط، هذا الأخير كان من بين الذين شجعوه إلى جانب عبد الوهاب الدكالي على المضي قدما في التلحين. و كانت أول أغنية له «غير سير أوكان»، وهي من كلمات حمادي التونسي وألحان المبدع السقاط، سجلت رفقة جوق فاس، الذي يترأسه أحمد الشجعي، والذي كانت تربطه به علاقة قوية. أما الأغنية الثانية «شنو اللي كان» والتي نظم كلماتها الشاعر الغنائي جواد العمارتي ولحنها السقاط، والتي جرى تسجيلها رفقة الجوق الجهوي لإذاعة الدارالبيضاء، أما الأغنية الثالثة «مابقيتي عندي فالبال» من ألحان السقاط وكلمات الفنان فتح الله لمغاري، والتي اشتهر بها الإدريسي.
يقول الحبيب عن هذه الأغنية إنه تمرن عليها حوالي أسبوعين قبل أن يتقرر تسجيلها رفقة جوق إذاعة الدارالبيضاء، ويذكر أنه تقاضى عنها أجرا هزيلا ما بين 500 و600 درهم. أما المناسبة التي اشتهرت فيها هذه الأغنية هي السهرة التي سجلت باستوديوهات عين الشق بالدارالبيضاء.
كما غنى الإدريسي: كل من «إيلا سد الله باب يفتح أبواب» و «البارح حبيت» من كلمات الزجال حميد مخلوف وألحان إدريس برادة، وأغنية «لله يالخاين» من ألحان عبد الهادي السوسي، التي سجلت رفقة الجوق الجهوي لإذاعة فاس. ثم لحن الإدريسي لبعض النجوم وساعد بعض الفنانين والفنانات، ك حياة الادريسي، ليلى غفران، سعاد محمد، عزيزة ملاك، فوزية صفاء، عفيفة جحفل، حميد شكري، والمطربة المصرية شاهيناز فاضل…
حاول الإدريسي أن يقدم بعض الألحان لدى الإذاعة الجهوية بالدارالبيضاء، والتي كان يترأس جوقها آنذاك الفنان إبراهيم العلمي، إلا أنها كانت ترفض، فاتجه إلى أحمد البيضاوي كي يساعده، لكنه لم يتوفق.
في بداية السبعينيات سيلتقي الحبيب الإدريسي بالفنان أحمد البيضاوي الذي كان يشتغل منصب رئيس قسم الموسيقى والألحان بالإذاعة الوطنية الرباط، وكان يلعب دور الرقيب، بمثابة سد منيع أمام تسرب أشباه المواهب وأدعياء الفن، حيث كان لا يسمح بمرور سوى الأعمال التي تتوفر فيها شروط الإبداع الحقيقي في الموسيقى واللحن.. في أحد الأيام كان الحبيب بمدينة طنجة لإحياء سهرة، وكان من بين الحاضرين البيضاوي، فاغتنم الفرصة الإدريسي، واتصل بالبيضاوي من أجل مساعدته في تسجيل ألحانه المرفوضة من طرف المشرفين على جوق إذاعة الدارالبيضاء، فوعده وطلب منه أن يزوره بمكتبه بالرباط، وبعد أسبوعين زاره في مكتبه، لكي يسمعه ألحانه.
كان الفنان الإدريسي قد باع بذلة خاصة به، كي يتوفر على ثمن تذكرة الذهاب إلى الإذاعة بالرباط، وصادف الفنان عبد السلام عامر، وبعد لقائه بالبيضاوي، قال له هذا الأخير «هيا أسمعني ما عندك من ألحان ؟» في تلك اللحظة ارتبك الإدريسي، وحاول أن يسوي أوتار العود دون أن يفلح رغم أنه كان يجيد العزف عليه، فقال له البيضاوي «واش فايت ليك درست بالمعهد الموسيقي؟» ولما أجابه الإدريسي بالنفي، رد عليه البيضاوي «إيوا سير أولدي درس ليك واحد العام ولا عامين باش تعلم تساوي العود عاد رجع عندي».
كانت للحبيب علاقة بكبار الفنانين والشخصيات، كما له صداقة مع الشريف الأمراني ومحمد السوسدي وعبد الحليم حافظ الذي كان يحفظ له جل الأغاني التي كانت مشهورة في تلك الفترة، وكان يشبهه في الملامح والمظهر الخارجي. في أحد الأيام من سنة 1962، زار الحبيب، الفنان عبد الحليم حافظ بفندق رويال المنصور بالدارالبيضاء، وتمكن من مقابلته والجلوس معه. في الموسم الدراسي 1971 و 1972 التحق بالمعهد الموسيقي بشارع باريس، لدراسة الصولفيج، والتعلم على آلة «العود» على يد الأستاذ سليمان شوقي.
يحكي الإدريسي في بداية السبعينيات في إحدى المناسبات كان حاضرا بقصر الصخيرات رفقة مجموعة من الفنانين، رآه الملك الراحل الحسن الثاني، فبادره بسؤال «فين غابر ما بقيتش كا نسمعك ياكما كنت مسافر؟» فأجابه الإدريسي بأنه موجود دائما، وإن أراد جلالته سماعه ما عليه سوى أن يوصي أحمد البيضاوي أو إبراهيم العلمي، وهو ما قام به الحسن الثاني الذي أمرهما بالإعتناء بالمطرب (الشاب) والذي كان الملك يلقبه ب(الشريف) .
أتيحت للفنان الحبيب فرصة سنة 1975، عند انطلاق المسيرة الخضراء. فتقدم بهدف المساهمة في الحدث، فمنحوه ملحمة زجلية تحت عنوان «الثورة الدائمة» وهي من كلمات محمد بن حسول مكونة من أزيد من عشرين بيتا، فكانت أول انطلاقة له، أما الثانية مع أغنية «بطاقة تعريف» كلمات الطاهر سباطة، فتحت هذه الأغنية أبواب التلحين على مصراعيها أمام الإدريسي، وتوالت الألحان التي قدمها بصوته أو بأصوات مطربين ومطربات على رأسهم حميد شكري وحياة الإدريسي والمطربة المصرية شاهيناز فاضل، وسعاد محمد وعزيزة ملاك، وفوزية صفاء وعفيفة جحلف، ومن بين أشهر الأغاني التي لحنها وأدى بعضها بصوته نذكر: «أحلى خبر» شعر نزار قباني، دخل الإدريسي عالم الأغنية المصورة، فسجل أزيد من عشرين أغنية، من إنجاز مخرجين مغاربة على رأسهم بن شريف والركاب وبورجيلة وغيرهم.. في سنة 2000 حاز على الجائزة الأولى من خلال أغنية «سالو النجمة»، وهي من كلمات جواد العادلي وغناء المطرب نور الدين الشنا، وذلك في المهرجان الأغنية العربية.
الفنان الحبيب الادريسي له أزيد من 400 أغنية، أغلبها بخزينة الإذاعة الجهوية بالدارالبيضاء، إلا أنه اكتشف أن أزيد من 14 أغانيه اختفت ولم يعد لها أثر. يتذكر الحبيب حينما جاء عبد الرحيم السقاط من الرباط للإقامة في الدارالبيضاء استقر في البداية بحي اسباتة قبل أن ينتقل إلى وسط المدينة في شقة قرب فندق واشنطن. حيث كان الفنان الحبيب الإدريسي، هو من توسط للسقاط لدى مشغله لكي يمكنه من الإقامة بالشقة التي كانت في ملك مشغله.